الغيبة والنميمة د.محمد عثمان الخشت
إن الإسلام دين يدعو إلى الأخلاق الرفيعة ويبني أحكامه على إصلاح العلاقات بين الناس .
والغيبة والنميمة من كبائر الذنوب، وقد كان السلف الصالح لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس . وقال الفضيل بن عياض :
ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرن الصائم وينقضن الوضوء : الغيبة والنميمة والكذب.
وشبه الله تعالى النميمة بالحطب الذي يشتعل، فالنميمة نار محرقة وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر.
والسكوت على الغيبة والنميمة كبيرة، والرضا بها كبيرة أيضا، فترك إنكار المنكر مع القدرة عليه من الكبائر.
والأصل في الغيبة والنميمة الحرمة، وقد تجب أو تباح لغرض صحيح شرعي، وحالات الإباحة والوجوب مثل: شكوى المظلوم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، وتحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، والتحذير من المجاهرين بالمعصية، وفي حالات السؤال عن الخاطب والمخطوبة، وتولي الوظائف.
الغيبة قال تعالى :
( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1))، يعني الإنسان الذي يغتاب الناس ويعيبهم، نزلت في أمية بن خلف، وقيل في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
و
(همزة لمزة )، أي : الذي يهمز الناس بفعله، ويلمزهم بقوله . فالهماز : الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل ، واللماز : الذي يعيبهم بقوله . ومن صفة هذا الغماز ، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده، والغبطة به ، وليس له رغبة في إنفاقه ، في طرق الخيرات، وصلة الأرحام ، ونحو ذلك .
وروى البيهقي عن ابن جريج: أن الهمز بالعين والشدق واليد، واللمز باللسان. قال البيهقي: وبلغني عن الليث أنه قال: اللمزة الذي يعيبك في وجهك، والهمزة الذي يعيبك بالغيب.
وقال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)). أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم :
"أتدرون ما الغيبة"؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : :
ذكرك أخاك بما يكره"، قيل : أفرأيت لو كان أخي ما أقول؟ قال :
"إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدي النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير بنقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام .
والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم واحتج على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم :
"اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس". قال الألوسي : وما ذكره لا يعول عليه،
والحديث ضعيف.
وقال أحمد: منكر .
وقال البيهقي : ليس بشيء ولو صح محمول على فاجر معلن بفجوره.
وفي الزواجر : لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد .
وقوله تعالى
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى: الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع، وإسناد الفعل إلى أحد إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الأنسان، وجعل المأكول أخا للكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله تعالى :
(فكرهتموه ) حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها. و الغيبة أكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكر المثالب وتمزيق الأعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها.
وقال بعضهم: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس .
النميمة قال تعالى :
( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)قال
ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة بين الناس تقول العرب : فلان يحطب على فلان : إذا وشى عليه.
وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر.
وقال ابن قتيبة: فشبهوا النميمة بالحطب والعداوة والشحناء بالنار لأنهما يقعان بالنميمة كما تلتهب النار بالحطب.
وقال أكثم بن صيفي لبنيه: إياكم والنميمة فإنها نار محرقة وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا يدخل الجنة نمام ". وقال :
" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ". وقال عليه الصلاة والسلام :
" من شر الناس ذو الوجهين : الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ". وقال كعب الأحبار : أصاب بني إسرائيل قحط فخرج بهم
موسى عليه السلام ثلاث مرات يستسقون فلم يسقوا فقال
موسى :
( إلهي عبادك )، فأوحى الله إليه :
( إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما قد أصر على النميمة )، فقال
موسى :
( يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا)، فقال :
( يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما )، قال : فتابوا بأجمعهم فسقوا.
والنميمة من الكبائر لا خلاف في ذلك حتى قال الفضيل بن عياض : ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرن الصائم وينقضن الوضوء : الغيبة والنميمة والكذب.
وقال عطاء بن السائب : ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم
:" لا يدخل الجنة سافك دم ولا مشاء بنميمة ولا تاجر يربي "، فقلت : يا أبا عمرو قرن النمام بالقاتل وآكل الربا؟ فقال : وهل تسفك الدماء وتنتهب الأموال وتهيج الأمور العظام إلا من أجل النميمة.
* السكوت على الغيبة والنميمة كبيرة:
السكوت على الغيبة والنميمة كبيرة، والرضا بها كبيرة أيضا، و ترك إنكار المنكر مع القدرة عليه من الكبائر، والغيبة والنميمة من عظائم المنكرات . و لو لم يمكنه دفعها فيلزمه عند التمكن مفارقة المغتاب.
متى تجوز الغيبة والنميمة؟
لا شك أن النميمة سبب العذاب وهو محمول على النميمة المحرمة، لكن هناك حالات تباح فيها، فإن النميمة إذا اقتضى تركها مفسدة تتعلق بالغير، أو فعلها مصلحة يستضر الغير بتركها، لم تكن ممنوعة كما نقول في الغيبة إذا كانت للنصيحة أو لدفع المفسدة، لم تمنع، ولو أن شخصا اطلع من آخر على قول يقتضي ارتفاع ضرر بإنسان فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر، لوجب ذكره له.
والأصل في الغيبة الحرمة وقد تجب أو تباح لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها، وحالات الإباحة والوجوب ذكرها الهيثمي، مثل:
الأول: المتظلم.. فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه
ا
لثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته بنحو فلان يعمل كذا فازجره عنه بقصد التوصل إلى إزالة المنكر وإلا كان غيبة محرمة ما لم يكن الفاعل مجاهرا.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول لمفت: ظلمني بكذا فلان فهل يجوز له وما طريقي في خلاصي منه أو تحصيل حقي؟ أو نحو ذلك.
والأفضل أن يبهمه فيقول: ما تقول في شخص أو زوج كان من أمره كذا. لحصول الغرض به. وإنما جاز التصريح باسمه مع ذلك لأن المفتي قد يدرك من تعيينه معنى لا يدركه مع إبهامه فكان في التعيين نوع مصلحة